تطورُ الموقف الروسي من الآخر العثماني، في القرن التاسع عشر
محتوى المقالة الرئيسي
الملخص
هناك على الدوام مؤثراتٌ مختلفة تتلاقى فيما بينها لتحدّد شيئين غالباً ما يكونان متلازمين، وهما طبيعة الهوية والموقف مِن الآخر سواء على الصعيد الجمعي أو الفردي. وتشكل المواقف الجماهيرية والثقافية العامة قواعد مهمة في تشكيل صورة الآخر في أي مجتمع كان أو جماعة، صحيح أنّ المواقف السياسة والعسكرية لها الثقل المباشر في تشكيل هذه الصورة، وبالتالي تحديد الموقف؛ إلا أنّ التصورات والمواقف الشعبية والثقافية أيضاً تُعد اللبنةَ الأساسية التي تتخذها السياسة في الاعتبار عند اتخاذ مواقفها السياسية.
فالموقفُ الثقافي وحتى الشعبي يعبِّر عن الرأي العام الذي يحدّد مواطنَ التماسكِ والضعف في القرار السياسي، لذلك غالباً ما عمِلت الحكوماتُ من خلال برامجها الدعائية والسياسية على التدخّل في تشكيل النمطية الثقافية الجماهيرية وتوجيهها؛ بحسب تطلعاتها ومصالحها؛ على اعتبار أنْ هذا بمثابة تهيئة أرضية ورأي عام لسياستها.
وتتداخل عواملُ كثيرةٌ أخرى في تشكيل صورة الشرق عموماً والآخر العثماني خاصة في المواقف الروسية، منها عوامل ذات صلة بتركيبة الثقافة السارية، ومنها عوامل ذات صلة بالسياسية وطموح الهيمنة والصراع. كمان أن هناك العامل الخارجي الذي له ارتباطات سياسية وعقائدية تطفوا على السطح كإفرازات وقرارات ومواقف تصل أحيانا إلى حد إعلان الحرب الفعلية.
فمثلا تشكّل أحداثُ البلقان أهمية كبيرة في تحوّل روسيا ثقافياً نحو الغرب؛ وتكوين هويتها على نحو يختلف عما كانت عليه سلفاً، صحيح أنّ أحداث البلقان سياسية بالدرجة الأولى؛ إلا أنها ومن جانب آخر ذات بعد ثقافي؛ نظراً لميل دول البلقان نحو الغرب بدوافعَ قومية أو مؤثرات خارجية.
وفي الوقت نفسه تكون عملية التغريب وما تحمله من عناصر الانبهار التي نجمت عن تطور الغرب الأوربي ذات أثرٍ في تحول الهوية الروسية وتنازعها بين الشرق والغرب متأثرة بالسياق الذي كان ساريا آنذاك لدى دول البلقان بعامة؛ بسبب تأثير القوي؛ فالقوي على دوام له نفوذ ثقافي وسياسي؛ بحسب رأي ابن خلدون؛ والضعيف يقدم تفسيرا لحالة اقتداء المغلوب بغالبه؛ ويحيل ذلك إلى انبهار المغلوب بالغالب؛ اعتقاداً من المغلوب بكمال الغالب وقوته سواء على مستوى القوة أو على مستوى العمران والتمدن والتحضّر.
يسلط البحثُ الضوءَ على تلك العوامل؛ ليخرج بتصور عن كيفية سريان ونفاذ تطور الانتماء الروسي وتوزعه بين الشرق والغرب وبالتالي علاقته بالدولة العثمانية. مع اعتبار أن هنالك عوامل عقيدية وقومية وأطماع تآزرت جميعا واتخذت مسوغات لاتخاذ موقف من الآخر العثماني؛ لتنعكس على المواقف السياسية والتدخلات العسكرية.